فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقال: كما سمعت دعاءه علي، فاسمع دعائي عليه، ثم دعا موسى عليه أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان، فسلخه الله مما كان عليه ونزع منه المعرفة.
فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فهذه قصته.
ويقال أيضًا: إنه كان نبيًا من أنبياء الله، فلما دعا عليه موسى انتزع الله منه الإيمان وصار كافرًا.
وقال عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وأبو روق: نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت، وكان قد قرأ الكتب، وعلم أن الله مرسل رسولًا في ذلك الوقت، ورجا أن يكون هو، فلما أرسل الله محمدًا عليه الصلاة والسلام حسده، ثم مات كافرًا، ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «آمن شعره وكفر قلبه» يريد أن شعره كشعر المؤمنين، وذلك أنه يوحد الله في شعره، ويذكر دلائل توحيده من خلق السموات والأرض، وأحوال الآخرة، والجنة والنار.
وقيل: نزلت في أبي عامر الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق كان يترهب في الجاهلية، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد ضرار، وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وسلم، فمات هناك طريدًا وحيدًا، وهو قول سعيد بن المسيب.
وقيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب، كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، عن الحسن والأصم وقيل: هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه، وهو قول قتادة، وعكرمة، وأبي مسلم.
فإن قال قائل: فهل يصح أن يقال: إن المذكور في هذه الآية كان نبيًا، ثم صار كافرًا؟
قلنا: هذا بعيد، لأنه تعالى قال: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وذلك يدل على أنه تعالى لا يشرف عبدًا من عبيده بالرسالة، إلا إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد الشرف، والدرجات العالية، والمناقب العظيمة، فمن كان هذا حاله، فكيف يليق به الكفر؟
أما قوله تعالى: {ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها} ففيه قولان:
القول الأول: {آتيناه آياتنا} يعني: علمناه حجج التوحيد، وفهمناه أدلته، حتى صار عالمًا بها {فانسلخ مِنْهَا} أي خرج من محبة الله إلى معصيته، ومن رحمة الله إلى سخطه، ومعنى انسلخ: خرج منها.
يقال لكل من فارق شيئًا بالكلية انسلخ منه.
والقول الثاني: ما ذكره أبو مسلم رحمه الله، فقال قوله: {ءاتيناه ءاياتنا} أي بيناها فلم يقبل وعرى منها، وسواء قولك: انسلخ، وعرى، وتباعد، وهذا يقع على كل كافر لم يؤمن بالأدلة، وأقام على الكفر، ونظيره قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب آمنوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا} [النساء: 47] وقال في حق فرعون: {وَلَقَدْ أريناه ءاياتنا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وأبى} [طه: 56] وجائز أن يكون هذا الموصوف فرعون، فإنه تعالى أرسل إليه موسى وهارون، فأعرض وأبى، وكان عاديًا ضالًا متبعًا للشيطان.
واعلم أن حاصل الفرق بين القولين: هو أن هذا الرجل في القول الأول، كان عالمًا بدين الله وتوحيده، ثم خرج منه، وعلى القول الثاني لما آتاه الله الدلائل والبينات امتنع من قبولها، والقول الأول أولى، لأن قوله انسلخ منها يدل على أنه كان فيها ثم خرج منها، وأيضًا فقد ثبت بالأخبار أن هذه الآية إنما نزلت في إنسان كان عالمًا بدين الله تعالى، ثم خرج منه إلى الكفر والضلال.
أما قوله: {فَأَتْبَعَهُ الشيطان} ففيه وجوه: الأول: أتبعه الشيطان كفار الإنس وغواتهم، أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعًا له.
والثاني: قال عبد الله بن مسلم {فَأَتْبَعَهُ الشيطان} أي أدركه.
يقال: أتبعت القوم.
أي لحقتهم.
قال أبو عبيدة: ويقال: أتبعت القوم، مثال: أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم.
ويقال: ما زلت أتبعهم حتى أتبعتهم.
أي حتى أدركتهم.
وقوله: {فَكَانَ مِنَ الغاوين} أي أطاع الشيطان فكان من الظالمين.
قال أهل المعاني: المقصود منه بيان أن من أوتي الهدى، فانسلخ منه إلى الضلال والهوى والعمى، ومال إلى الدنيا، حتى تلاعب به الشيطان كان منتهاه إلى البوار والردى، وخاب في الآخرة والأولى، فذكر الله قصته ليحذر الناس عن مثل حالته. اهـ.

.قال السمرقندي:

{واتل عَلَيْهِمْ} أي إِن لَّمْ يرجعوا بذكر الميثاق ولم يتوبوا فاتل عَلَيْهِمْ {نَبَأَ الذي ءاتيناه} أي خبر الذي أعطيناه {ءاياتنا} يعني: أكرمناه باسم الله الأعظم.
ويقال: {واتل عَلَيْهِمْ} يعني: الكتاب وهي علم التوراة وغيره {فانسلخ مِنْهَا} يعني: خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها.
ويقال: تهاون بها ولم يعرف حقها، ولا حرمتها، وخرج منها {فَأَتْبَعَهُ الشيطان} يقول: غرّه الشيطان {فَكَانَ مِنَ الغاوين} أي فصار من الظالمين وفي الضالين.
قال بعضهم: هو بلعم بن باعوراء كان عابدًا من عباد بني إسرائيل، وكان مستجاب الدعوة، فنزع الله تعالى الإيمان عنه بدعاء موسى عليه السلام، وذلك أن موسى عليه السلام قاتل فرعونًا من الفراعنة فجمع ذلك الفرعون الكهنة والسحرة، فقال لهم: أعينوني على هؤلاء يعني: قوم موسى فقالوا: لن تستطيعهم، ولكن بجوارك رجل منهم فلو بعثت إليه واستعنت به، فبعث الملك إلى بلعم فلم يجبه، فبعث الملك إلى امرأة بلعم الهدايا وطلب منها بأن تأمره بأن يجيب الملك، فجاءته امرأته وقالت: نحن في جوار هذا الملك فلابد لك من إجابته.
فأجابهم إلى ذلك، وركب أتانًا له، وخرج إليهم فسار حتى إذا كان في بعض الطريق وقفت أتانه فضربها، فلما ألح عليها كلّمته الأتان وقالت: انظر إلى ما بين يديك فنظر فإذا هو جبريل قال له: خرجت مخرجًا ما كان ينبغي لك أن تخرج.
فإذا خرجت فقل حقًا قال: فلما قدم عليه أمر له بالذهب والفضة والخدم والفرش فقبل.
فقال له: قد دعوتك لتدعو لي على هذا العسكر دعوة.
قال: غدًا.
فلما تلاقى القوم قال بلعم: إن بني إسرائيل أمة موسى ملعون من لعنهم ومبارك من بارك عليهم.
فقالوا له: ما زدتنا إلا خبالًا.
قال بلعم: ما استطعت غير ما رأيت.
ولكني أدلك على أمر إن فعلته فوقعوا به خُذِلوا ونصرت عليهم، تعمد إلى نساء حسان فتجعل عليهم الحلي والثياب والعطر ثم ترسلهن في عسكرهم.
فإن وقعوا بهن خذلوا.
ففعل ذلك فما تعرض لهن منهم إلا سفهاؤهم فخذلوا.
فأخبر بذلك موسى فدعا عليه فنزع الله منه الإيمان.
وقال بعضهم: إنما هو أمية بن أبي الصلت قرأ الكتب ورغب عن عبادة الأوثان وكان يخبر أن نبينا يبعث وكان قد أظل زمانه.
وكان يرى أن الوحي ينزل عليه لكثرة علمه.
فلما سمع بخروج النبي صلى الله عليه وسلم وقصته كفر حسدًا له.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع شعره قال: «آمن لسانه وكفر قلبه» فذلك قوله: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ}. اهـ.

.قال الثعلبي:

{واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا}.
اختلفوا فيه.
فقال عبد الله بن مسعود: هو بلعم بن ابرة. وقال ابن عباس: هو بلعم بن باعورة. وقال مجاهد: هو بلعام بن باعر. وقال مقاتل: هو بلعام بن باعور بن ماث بن لوط. عطية عن ابن عباس: هو من بني إسرائيل.
وقال عليّ بن أبي طلحة: هو من الكنعانيين من مدينة الجبارين، وقال مقاتل: هو من مدينة بلقا، وسميت بلقا لأن ملكها كان رجلًا يقال له: بالق وكانت وصيته على ما ذكره ابن عباس وابن إسحاق والسدي وغيرهم: إن موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعم إلى بلعم وكان عنده اسم الله الأعظم.
فقالوا: إن موسى رجل شديد ومعه جنود كثيرة وإنّه قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وأنا قومك وبنو عمك وليس لنا قول وأنت رجل مجاب الدعوة فأخرج وادع الله تعالى أن يرد عنا موسى وقومه فقال: ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي. وقالوا ما لنا من نزل وراجعوه في ذلك قال: حتى أُءامر ربّي، وكان لا يدعو حتّى ينظر ما يؤمر في المنام فيأمرني الدعاء عليهم.
فقيل له في المنام: لا تدع عليهم، فقال لقومه: إني قد أُمرت ربّي في الدعاء عليهم وإنّي قد نُهيت، فهدوا له هدية، فقبلها ثمّ راجعوه وقالوا: أدع عليهم، فقال: حتّى أؤمر فلما أُمّر لم يجيء إليه شيء. فقال: قد أُمّرت فلم يجيء إليّ شيء، فقالوا: لو كره ربّك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك في المرة الأولى. فلم يزالوا به يروقونه ويتضرعون إليه حتّى فتنوه فافتن فركب أتانًا له متوجهًا إلى جبل يطلعه على عسكر بني إسرائيل يقال له جسبان.
فلما سار عليها غير كثير ربضت به فنزل عنها فضربها حتّى إذا أذاقها قامت فركبها فلم تسر به كثيرًا حتّى ربضت، ففعل بها مثل ذلك فقامت فركبها فلم تسر به كثيرًا حتّى ربضت فضربها حتّى إذا أذاقها أذن الله لها بالكلام فتكلمت حجة عليه فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب ألا ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا لنذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم، فلم ينزع عنها فخلّى الله سبيلها فانطلقت حتّى إذا أشرقت به على جبل جسبان جعل يدعو عليهم فلا يدعو عليهم بشيء إلاّ صرف به لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلاّ صرف مسألته إلى بني إسرائيل.
فقال له قومه: أتدري يابلعم ما تصنع إنما تدعو لهم وتدعو علينا، قال: فهذا ما لا أملك هذا شيء قد غلب الله عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لهم: قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة، فلم يبقَ إلاّ المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال، اجملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع ثمّ أرسلوهن إلى العسكر يتعدوا فيه ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنهم إن زنا رجل واحد منهم يفتنوهم ففعلوا.
فلمّا دخل النساء العسكر مرَّت امرأة بين الكنعانيين اسمها بشتي بنت صور برجل من عظماء بني إسرائيل يُقال له زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام فقام إليها فأخذ بيدها حين أَفْتنه جمالها ثمّ أقبل حتّى وقف على موسى فقال: إني أظنك ستقول هذه حرام عليك قال: أجل هي حرام عليك لا تقربها قال: فوالله لا نطيعك في هذا ثمّ دخل بها قبته فوقع عليها فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت.
وكان لفنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى رجلٌ قد أعطى بسطة في الخلق وقوة في البطش وكان غائبًا حين صنع زمري بن شلوم ما صنع فجاء والطاعون يمجّس في بني إسرائيل وأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلّها ثمّ دخل عليه القبة وهما متضاجعان فاستقبلها بحربته ثمّ خرج بهما رافعًا بهما إلى السماء والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته.
وكان يكره العيزار وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك فرفع الطاعون. فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجوده قد هلك منهم سبعون ألفًا في ساعة من نهار، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص كل ذبيحة ذبحوها الفشة والذراع واللحى، لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعه وبإسناده إياها إلى لحيته، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم لأنّه كان بكرًا لعيزار بن هارون وفي بلعم أنزل الله تعالى: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا} الآية.